top of page

رحلة إلى المستقبل

د. عبد القوي حزام الشميري

رحلة الى المستقبل.jpg

قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، وبينما كنت واقفاً مع صديقٍ لي بالقرب من إحدى المدارس الابتدائية في إحدى كبريات مدن اليمن ننظر إلى مئات الطلاب يغادرون مدرستهم وقت انتهاء الدوام الرسمي، جال في خاطر صديقي سؤال: "ماذا تتوقع أن يكون مصير هؤلاء بعد خمسة عشرَ عاماً؟! إلى أي يمنٍ يمضون وأي مستقبلٍ ينتظرهم؟"

أخبرته أن علم الغيب ليس من صفات البشر، و قبل أن أكمل حديثي قاطعني قائلاً: "دعنا نقرأ المستقبل من خلال الحاضر، فكما قال المؤرخ المشهور وليام لوند "ندرس الماضي لنفهم الحاضر، ونفهم الحاضر لتوجيه المستقبل".  كانت خلاصة حديثه أنه بعد (15) عاماً سيكون حلم هذا الجيل أن يعود (15) عاماً إلى الوراء. لقد بنى صديقي تصوره هذا على الواقع التعليمي الذي كانت تعيشه اليمن.

وقتها، كان يهدد اليمن عدد من التحديات السياسية  والمادية  والتعليمية والصحية.  واليوم  نحاول استشفاف مستقبل أجيال اليمن من خلال نظرة سريعة لواقع التعليم، وكيف ستكون انعكاساته على مستقبل اليمن  في المنظور القريب، لعلنا نتجنب مستقبلاً لا نرجوه لأولادنا وأحفادنا وأجيالا ً تليهم ما زالت في علم الغيب. وفي الوقت نفسه نوجه رسالة تنبيه لأصحاب القرار بالتحديات المستقبلية التي تواجه أجيال المستقبل. ونحن إذ نقوم بهذه المحاولة لارتياد الغد واستشراف المستقبل فإنما نفعل ذلك  نتيجة شعور دفين بالقلق من الخطر القادم الذي ينبئ به الواقع ، وهي رغبة حقيقية في لفت انتباههم لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

اليوم، وبعد خمسة عشر عاماً بدت مقولة صديقي صائبة، ومع  أن جميع التحديات ما تزال قائمة فقد أضيف إليها تحدٍ مدمر هو القتال المستمر منذ سبع سنوات وآثاره السلبية لا تخفى على أحد. كان للتعليم نصيب الأسد من هذه التحديات؛ حيث ألحق الصراع بين الأطراف  دماراً واسعاً في النظام التعليمي الذي كان في الأصل هشاً وضعيفاً،  فكان الصراع بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فمن أبرز تأثيراته على العملية التعليمية نقص الموارد المالية اللازمة لتغطية النفقات التشغيلية للمدارس، والتدهور الاقتصادي، وانقطاع المرتبات عن المعلمين منذ أكثر من خمسة أعوام، وعدم قدرة الحكومة على طباعة الكتاب المدرسي، فضلاً عما حدث من تدمير للبنية التحتية، وقصف للمدارس أو استغلالها لأغراض غير تعليمية، وما صاحب ذلك من نزوح إليها أو إغلاق بعضها، وجمود المناهج الدراسية وتخلفها عن مواكبة العصر.

هذه العوامل مجتمعة أو منفردة أدت إلى حرمان ملايين الأطفال اليمنيين من حقهم في التعليم، وبحسب منظمات أممية  فإنه يوجد حوالي مليونا طفلٍ خارج المدارس حتى نهاية عام 2019،  و ما يقرب من نصف مليون طفلٍ قد تسربوا من الدراسة ، كما  بات تعليم ثلاثة ملايين وسبعمائة طفلٍ آخر على المحك وفقا لتقارير أممية،  ومعظم من يجلسون على مقاعد الدراسة لا يحظون بتعليم مناسب ولا تتوفر لهم بيئة مناسبة.

هذا الواقع  وهذه الأرقام المرعبة - والصادمة لاشك - ستنتج لليمن جيلاً  يفتقد فرصة النمو والتطور، ويكون عالة على الأسرة والمجتمع، عالقاً في نهاية الأمر في حياة يملؤها العوزُ والمشقة، جيلاً مكتئباً مضطرباً، لا يحمل سوى جماجم فارغة يسهل التأثير عليها وبرمجة عقولها بأفكار ومعتقدات قد تكون وبالاً ودماراً ومصدراً لتأجيج النزاعات ووقوداً لصراعات مستقبلية، جيلاً لا يوجد في رأسه سوى نزعة الانتقام، وكل ما يتنافى مع فكر الإنسان السوي، ومع فكر القرن الواحد والعشرين، إذ ماذا نتوقع من جيل استحوذ الرصاص والدم والقتل على مفردات لغته، وشكلت وعيه وشتت تفكيره ، ودمرت أمنياته ثقافةُ الموت؟!

وإذا أردنا أن نخرج من هذا الوضع المخيف فلابد من بذل جهود عاجلة للحيلولة دون تفاقم هذه المعضلة، تتمثل تلك الجهود في وقف الهجمات الجوية والبرية على المنشآت التعليمية والتعامل معها بوصفها مساحات تعلّم آمنة تخص أطفال اليمن وشبابه فقط،  ويجب ألا تستغل فكرياً أو سياسياً لصالح هذا التيار أو ذاك؛ فعقول هذه الأجيال أمانة ينبغي ألَّا تغذى إلا بالفضيلة والخير والحب وبالعلم كذلك.  و ينبغي على سلطات التعليم في جميع أنحاء اليمن أن تعمل سوية للتوصل إلى حل فوري لتوفير رواتب جميع المعلمين والموظفين العاملين في مجال التعليم كي يستقر المعلم نفسياً وذهنياً لما لذلك من أهمية قصوى وأثر في جودة التعليم. وقبل هذا وذاك، ينبغي على أطراف النزاع في اليمن العمل على تحقيق السلام بما يتيح المجال للتعافي وعودة حياة الأجيال إلى طبيعتها. ولا يتخيل عاقل، ولا يقبل عقل أو منطق أن نتحدث في القرن الواحد والعشرين عن حقوق أساسية للأطفال كالمُدرس المناسب والمَدرسة الآمنة والبيئة الثقافية الحاضنة، لأنها حقوق بديهية لا تحتاج إلى تفاوض أو مساومة، و من الجرم أن تكون هذه المآسي من صنع الإنسان ضد أطفاله.

إن الحديث هنا ليس حديث فاقدٍ للأمل، فمن رحم المعاناة قد يولد الأمل، وشعبُ مثل الشعب اليمني يستطيع أن يتحدى الصعاب ويبني يمناً جديداً بالعلم والعمل، وقد يخرج يمناً جديداً كطائر العنقاء الذي يخرج من بين الرماد إذا ما استفاق من غفوته وفعل ما يلزم لتصويب بوصلته. 

حاولت هنا أن أصف الوضع وأضع النقاط على الحروف من خلال النظر بتمعن إلى أين يمضي الوضع الحالي بمستقبل أجيال اليمن. ومن المؤكد أنه لن تزدهر أمة ما لم تعد العدة لمستقبل مبني على العلم والعلماء، ولن ينعم جيلٌ بمستقبل مزدهرٍ إذا لم تتوفر له إمكانيات التعليم  المناسب، ولن يأمن وطن ٌمن صراعات مستقبلية إذا لم يُغَذَّ أبناؤه بقيم التسامح والأخوة والوطنية والقبول بالرأي والرأي الآخر والعدل والديمقراطية.

 أتمنى أن لا تكون أمانينا بعد خمسة عشرعاماً مشابهة لأمنية صديقي قبل خمسة عشر عاماً، فهناك عبارة تقول: "من ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل". وأتمنى ألا يكون مستقبل أجيالنا كحاضر آبائهم. كما أختم هذا المقال باقتباس مشهور للمؤلف الروائي الأمريكي ويليام جيبسون: "المستقبل بين أيدينا، لكن أهم أجزائه حدثت منذ زمن بعيد".

Name, Title

.تحليل ذو قيمة

bottom of page