top of page

التغير الاجتماعي

أ.د فتحية محمد باحشوان

التغيير الاجتماعي.jpg

التغير الاجتماعي ظاهرة طبيعية مستمرة تخضع لها كل المجتمعات، إلا أن هناك ظواهر أسرع في تغيرها وتطورها من الأخرى إذ يكفي أن ننظر إلى المجتمعات الإنسانية المختلفة لنرى مدى التغير الذي أصابها عبر حقب التاريخ.

إن التغير الاجتماعي هو كل تغير يطرأ على البناء الاجتماعي في الوظائف والقيم والأدوار الاجتماعية خلال فترة محدودة من الزمن، وقد يكون هذا التغير إيجابياً فيسمى تقدمًا، وقد يكون سلبياً ويسمى تخلفاً؛ فالتغير إذاً ليس له اتجاه محدد. والتغير سُنة طبيعية تخضع لها جميع مظاهر الكون وشؤون الحياة. وقديماً، قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس إن التغير قانون الوجود، والاستقرار موت وعدم، ومثّل لفكرة التغير بجريان الماء فقال: "أنت لا تنزل النهر الواحد مرتَين؛ إذ إن مياهاً جديدة، تجري من حولك أبداً".

لقد تعرضت المجتمعات الإنسانية المختلفة منذ فجر نشأتها وخلا فترات تاريخها للتغير، ولا يقتصر التغير الاجتماعي فيها على جانب واحد من جوانب الحياة الإنسانية والاجتماعية، وإذا بدأ فمن الصعب إيقافه نتيجة لِما بين النظُم الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي، بعامة، من ترابط وتساند وظيفي؛ فالنظم الاجتماعية في المجتمع مترابطة ومتداخلة ومتكاملة بنائياً ووظيفياً وأي تغير يحدث في ظاهرة ما فلا بد أن يؤدي إلى سلسلة من التغييرات الفرعية التي تصيب معظم جوانب الحياة بدرجات متفاوتة.

 

وظاهرة التغير الاجتماعي أوضح ما تكون في كل مناحي الحياة الاجتماعية، وهذا ما أدى ببعض المفكرين إلى القول بعدم وجود مجتمعات وإنما الموجود هو تفاعلات وعمليات اجتماعية التي تظل في تغير دائم وتفاعل مستمر.

إن المتتبع لديناميات التفاعل الاجتماعي يستطيع أن يكشف ما طرأ من تغير كمي وكيفي في نمط التفاعل وفي المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية، فالتغير في النسق القيمي يعد نوعًا من التغير البطيء جدًا بخلاف العناصر المادية التكنولوجية. ويترتب على تغير القيم تغير مجموعة أنماط التفاعل والعلاقات والمراكز والأدوار الاجتماعية، فتغير نمط الحياة الاجتماعية -كالانتقال من النمط الإقطاعي للمجتمع إلى النمط التجاري الصناعي الذي يصحبه تغير في القيم التي ترتبط بأخلاقيات هاتين الطبقتين في النظرة إلى العمل وقيمة القائمين عليه- أدى إلى تغير النظرة المجتمعية إلى طبيعة المهن نفسها.

 

فعلى سبيل المثال كانت الفروسية والعمل في الجيش من أفضل المهن الاجتماعية، أما في العصر الحديث فقد تغير ذلك وأصبح النشاط الاقتصادي وإقامة مشروعات صناعية واقتصادية مربحة ماديًا والحصول على مناصب عالية وامتلاك الثروة والقوة الاقتصادية والسياسية معا يعد أمراً مهمًا يسعى إليه الفرد.

كما أن التغير في البناء الاجتماعي يؤدي إلى تغير في نوعية النظم الاجتماعية وأشكالها ووظائفها في المجتمع وتغير نوعية الأدوار الاجتماعية. لقد تغير نظام الملكية من ملكية خاصة إلى عامة في المجتمع الاشتراكي -السوفييتي سابقًا-، وأدى إلى تغير نظام الإنتاج وعلاقات العمل ونوعية الطبقات الاجتماعية، والاتجاه نحو تشجيع المشروعات الخاصة، كما ترتب على ذلك أيضا تغير مفهوم الحريات بمعناه العام وحرية الملكية الفردية.

ويتسم التغير الاجتماعي بعدد من الصفات، منها أنه ينبع من داخل الجماعة، ويكون سريعاً، وقد يكون على مرحلة أو على عدة مراحل، ويعمل على تغير الظاهرة من جذرها وبشكل شامل للظاهرة من جميع جوانبها، كما يعالج التغير الاجتماعي الواقع في المجتمع.

ومن أهم العوامل المشجعة على التغير التكنولوجيا والتقدم والعمل بها العوامل الفكرية والمعتقدات السائدة، التي تؤدي دوراً فعالاً في التغير الاجتماعي، والعوامل السياسية المتمثلة في الحروب والثورات، والزعماء والرؤساء. أيضاً، يؤدي الاتصال الحضاري والثقافي بين المجتمعات تغيراً اجتماعياً؛ فالتواصل بين المجتمعات يساهم في نقل الثقافة والحضارة.

غير أن هناك معوقات قد تقف أمام هذا التغير منها المصالح الذاتية التي تهدد مصالح الأفراد والجماعات؛ إذ يقاوم أصحاب المصالح الذاتية التغيرَ حرصاً على امتيازاتهم، أو خوفًا من الجديد، أو تبجيلاً للماضي وتقديسه والشك في الجديد وما سوف يأتي به. وطالما قاومت المجتمعات كلّ تغير يعتري ما ألِفته من مفاهيم راسخة فستصاب بالجمود، فمن المفاهيم الراسخة في المجتمعات العربية ما يتعلق بخروج المرأة إلى العمل أو التعليم أو السفر إلى الخارج، أو إدخال التكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى بعض العادات القديمة والتقاليد المتوارثة، ويتصلب هذا العائق حينما يكون الكبار والشيوخ هم أهل الحل والعقد؛ إذ يكبر عليهم تغيير عاداتهم.

وقد شهدت الأسرة العربية تغييرات ملموسة في العلاقة بين أعضائها لا سيما دورها في التنشئة الاجتماعية بفعل عوامل اقتصادية وتطلّعات استهلاكية، وسرعان ما أدت هذه التغيرات إلى نشوء تناقض بين قيم الأهل وسعيهم إلى تربية أبنائهم بالطريقة التي يعتقدون أنها الأمثل وبين ما يتلقاه الشباب من محيطهم وزملائهم ووسائل الإعلام المحلية والعالمية، فضلاً عما تفرضه الجماعة على الفرد وما تطلبه منه من قيم الطاعة والامتثال، مما يتسبب في اتساع الفجوة بين العام والخاص في حياة الشباب.

لم يعد مفهوم التغيّر الذي تشهده المجتمعات يقتصر على تلك التحولات التي تطرأ على عناصر أو سمات ثقافية محددة، لكنه يمتد ليشمل الكل العام أو ما يسمى بالعلاقات والبناء الاجتماعي، ومن ثم فإن أي تغير في هذه العلاقات ينعكس على البناء الاجتماعي في جملته، الذي يتكون من مجموعة من الأجزاء المترابطة فيما بينها بمجموعة من العلاقات والروابط المساهمة بدورها في تمايز هذا البناء الاجتماعي وتعزيز التماسك بين أعضائه، ويحتل كل عضو فيهم مركزاً معيناً، ويؤدي دوراً محدداً في الحياة الاجتماعية. وهكذا فهذه التغيّرات لا تطرأ على أنماط معينة من العلاقات والنشاطات دون غيرها، وإنما تشمل كل الأنماط السائدة في المجتمع.

Name, Title

.تحليل ذو قيمة

bottom of page