top of page

الصّحافة الحسّاسة وتوطيد وحدة الأُمّة

د. طه فارع غالب

Sanaa-Yemen.jpg

تمثّل الصّحافة في واقعنا الحالي منبراً مهمّاً للوصول إلى شريحة مهمّة من الجمهور، حيث يمكن للأخبار أو التّقارير الصحفية التي تنقلها الصحافة أو المقالات التي تنشرها أن تثير مجالاً واسعاً من العواطف والمشاعر لدى هذا الجمهور. بل قد تنتقل حالة الأشخاص المزاجية من الأمل إلى الخوف، ومن الاستقرار إلى القلق، مغيّرةً حالاتهم من الإحباط تجاه موقف معيّن إلى الإيمان بذلك الموقف، وذلك يعود لاختيار الصّحفي الأسلوب الذي يستخدمه في العرض، لاسيما كلماته التي ينتقيها للتعبير عن قضيّةٍ ما أو مشكلة يتناولها، ومنهجه الذي يسير عليه في مخاطبة جمهوره. إذاً فالأمر يعود إلى الصحفي نفسه في الاختيار ما بين المهنية والموضوعية في التّعامل مع جمهوره وبين تقديم العواطف والمشاعر في العرض لاسيما الرأي الذي يستعرضه.

     

والحقيقة أن هناك من يطرح عدداً من التّساؤلات التي تستحقّ التأمّل والتمحيص من قبل الصحافي عند تناول أي موضوع أو قضية للكتابة عنها. ومن هذه التّساؤلات نطرح: ما هي التجارب التي شكّلت مهنتي كصحفي؟ وما التصوّرات التي أُبلورها حول أي نزاع؟ وكيف تؤثر على إنتاجي؟ وما الرسائل التي أنقلها من خلال عملي؟ وهل هي الرسائل التي أريد أن أنقلها بالفعل؟ هذه تساؤلات يراجع فيها الصّحافي نفسه تجاه مهنته الصحفية، حتى يبقى في إطار الموضوعية والمهنية للعمل الصحافي البنّاء.

 

من هنا كان لا بدّ من توفّر ما يمكن أن نسمّيه "الوعي الذّاتي" للصحافيّ. بمعنى آخر، أن يُدرك الأخير حقيقة مشاعره وعواطفه تجاه القضايا والمشاكل التي يتناولها في تقاريره الإخبارية أو مقالاته الصحافية أو تحريره وكتابته للقصص الإخبارية، وأن يتفحّص داخله جيّداً أين يقف تماماً منها، وما مدى التجرّد الذّاتي من أي ميل أو تعاطف نفسي تجاه تلك القضايا أو المشاكل. وبعد تلك المراجعات الصّادقة والشفافة مع نفسه وفكره، ينطلق في تقديم الحقيقة والمعلومة بكلّ تجرّد ومهنية ونزاهة، بعيداً عن التهويل والتّضخيم والمبالغات التي لا تعبّر عن الحقيقة المطلوبة في أي شيء منها، كما كونها لا تخدم المجتمع المستهدف بأيّ حال.

 

فالصّحافة الحسّاسة التي تلتزم بالمهنية في كل أحوالها هي الصّحافة التي يجب أن تهتمّ بمصلحة الجمهور وتأخذها بعين الاعتبار أكثر من التّركيز على ما  يهتمّ به الجمهور أو يرغبه. فتعمل الصّحافة على الاهتمام بوحدة الأُمّة وتتفادى تشتيت الشعب وبثّ الفرقة فيما بينها، وتركّز على الوقاية من الدّاء قبل انتظار وقوعه، متبنّيةً التّحليل العلميّ المنطقيّ للمشكلة لاسيما سُبُل معالجاتها ومتحاشيةً إثارة المشاعر وإشعال العواطف وجذب الانتباه الذي غدا ربما صفة مميّزة لدى من يعمل في مهنة الصّحافة. فالصحافة الحسّاسة المهنية هي التي تساهم في حلّ النزاعات، و تتقصى الحقيقة المجرّدة من الهوى والنزعة الذاتية التي قد تلاحظ أو تظهر من الكاتب أو الصحفي بقصدٍ أو من دون قصد،وتوحّد الرؤى من أجل ردم الفجوة بين فئات المجتمع، والحفاظ على الهوية الوطنية لأبناء الأُمّة، التي تمثّل محوراً ومرتكزاً مهمّاً في توحيد كيان المجتمع وتماسك نسيجه الاجتماعي.

 إنها في نهاية المطاف صحافة التنمية والتطوّر والإيجابية في معالجة القضايا الحياتيّة الملحّة، التي تتناول كأولويّة كلّ ما يدعم وحدة الصّفّ اليمني، ويقوّي نسيجه، خصوصاً في ظلّ الصراعات القائمة بين أبنائه، كلّ ذلك بعيداً عن الإثارة وإشاعة الفتنة وتعميق الهوة بين أفراد المجتمع.

انطلاقاً من هذا المفهوم، يمكننا أن نصف الصحافة بالصّحافة الإيجابية التي تلامس الواقع وطموحات الناس وتساهم بكل شفافية في البحث عن معالجات وحلول للكثير من قضاياهم. كما يمكنها من دون أدنى شكّ أن تلعب دوراً فعّالاً ومهمّاً في توحيد الصّفّ الوطني، وترسيخ القيم الوطنية، ودعم الجهود التي تسعى إلى التقريب بين وجهات النظر، وتضييق الخلاف المؤدّي إلى الفرقة والصّراع. انطلاقاً من هذا المفهوم، يرى الباحثون والخبراء في مجال الإعلام والاتّصال أن على الصّحافي أن يُراعي معايير الصّحافة الحسّاسة ويدرك مكامن قوّة تقاريره الإخبارية المؤثّرة على الأفراد والحكومات، وأن ينظر إلى نفسه كوسيلة اتّصال تربط بين المعلومات والجمهور الذي يستهدفه، وأن يُحسن اختيار الكلمات التي يستخدمها، وأن يكون على علم واطّلاع واسع بالقضايا والناس، وأن يتجنّب استخدام اللّغة والمفاهيم التي تحكم على الأمور مسبقاً، وأن ينشر وجهات النظر النمطية قدر الإمكان، وأن يعي بالإضافة إلى كونه صحافي فهو مواطن  يجب أن يوجّه شعوره الصّادق بكلّ موضوعية وأمانة إلى معالجة القضايا الوطنية من جميع الزوايا، ويأخذ بكل الآراء المنصفة التي تصبّ في مصلحة الوطن وتدعم وحدته والحفاظ على كينونته المهدّدة. فقبل أن يعمل على نقل المعلومة والخبر في أوقات النّزاع لا بدّ من أن يلقي نظرة فاحصة على عواطفه، وأن يبحث عن المفكّرين الأذكياء ذوي الآراء المتنوّعة الذين يسعون لإيجاد الحلول وليس لإثارة وإشعال الخلافات والنّزاعات التي لا تخدم الوطن ولا المجتمع.

Name, Title

.تحليل ذو قيمة

bottom of page